من الصدق إلى الحقيقة هو نداء الحياة في داخلنا وتحدّينا اليوميّ. الصدق هو إحساسي بذاتي، إنصاتي إلى نبض قلبي، إلى صوت مشاعري وأفكاري ورؤيتي الأمور والعالم. لا يمكن إنسانًا أن يعيش إلّا وإن كان صادقًا، يحسّ بالجوع والعطش والبرد، ويلبّي حاجاته الأساسيّة كي يستمرّ في الحياة.
ولكنّنا لا نحيا بالاستماع إلى أنفسنا فحسب، لأنّنا نعيش داخل نسيج بشريّ متشابك، والكلمات التي نسمعها ونتبادلها كثيرًا ما تأتينا بنور وتغذّي الفكر والوجدان. في مسيرتنا البشريّة، من خلال حواراتنا وعلاقاتنا نكبر في الوعي بذواتنا، وتنفتح حياتنا على معاني الحبّ والعطاء، والتعاون والتضامن، والشفقة والمساندة. نسير معًا نحو الحقيقة الإنسانيّة التي لا يملكها أحدٌ، ولكنّها تدعونا إليها حتّى نجد ذواتنا حقًّا، ونصير بشرًا مع الآخرين ومن أجلهم.
ولكنّ الأمور لا تسير بسهولة في واقعنا اليوم، لأنّ الصدق، شعورنا بذاتنا وتمسّكنا بأفكارنا وآرائنا، خاصًّة حين نشعر بأنّ الآخرين مختلفون جدًّا عنّا، أو بانّهم جرحونا وآلمونا بوجه من الوجوه، نعتبره واحة أمانٍ وضمانٍ لنا. وعندئذٍ نتشبّث بما نعرفه ونسمعه من داخلنا، الصدق، ونعتبر أنّ ما يأتينا من الخارج ويدعونا إلى الإنصات إليه بمثابة تهديد لكياننا ووجودنا. هذا ما نعيشه على مستوى علاقاتنا الشخصيّة في العائلات والجماعات البشريّة بأنواعها المختلفة، وبين الدول والأديان والثقافات. ومن هنا تبدأ النزاعات والعداوات، ونخطأ بعضنا في حقّ بعض وبحقّ أنفسنا أيضًا.
إنّ التقاءَنا يسوع، الوديع والمتواضع، الذي يكلّمنا بكلمات الحبّ والمغفرة، يخرجنا من دائرة الصدق الخانقة، ويدعونا إلى الإيمان بوعد الحياة الفيّاضة التي يمنحنا إيّاها. الصدق، نشعر به، نراه ونسمعه، والحقيقة، النداء إلى الحياة والحرّيّة. يرافقنا يسوع في كلّ مواقف حياتنا كي لا ننحصر في صدقنا، ونسمع نداء الحياة الحقيقيّة التي يعلنها في حياته وموته وقيامته.
تعليقات 0 تعليق