Par Sami Kuri s.j.
يقوم الأب سامي خوري اليسوعيّ بإسداء خدمة كبيرة لكتبة تاريخ لبنان، من خلال نشر وثائق أرشيف الآباء اليسوعيّين في لبنان تحت عنوان تاريخ لبنان من خلال أرشيف الآباء اليسوعيّين Une Histoire du Liban à travers les archives des Jésuites
وقد صدرت هذه المجموعة عن دار المشرق وهي تضمّ حتّى الآن ثلاثة أجزاء: الأوّل صدر العام 1985 وهو يغطّي الفترة التاريخيّة الممتدّة بين 1816 و1845، والثاني صدر العام 1991 وهو يغطّي الفترة الممتدّة بين 1846 و1862، والثالث ظهر حديثًا وهو يشمل الفترة الممتدّة بين 1863 و1873. ومن المعروف أنّ الحقبة التي يشملها الجزء الثالث هذا هي مرحلة إعادة إعمار لبنان بعد الأحداث والحروب الطائفيّة التي شهدها الجبل بصورة متقطّعة بين 1840 و1860، وذلك في أثناء مؤسّسة المتصرفيّة التي أُنشئت نتيجة مؤتمر بيروت الدوليّ وباتّفاق الدول الكبرى في حينه وضمانتها.
ويتبيّن من الوثائق المنشورة في هذا المجلّد أنّ هذه المرحلة بالذات هي منطلق التكوين السياسيّ والثقافيّ والسوسيولوجيّ والاقتصاديّ في لبنان الحديث، حيث بدأت تؤسَّس وتتعزّز المؤسّسات التربويّة والجامعيّة، فتكوَّنت طبقة جديدة من المثقَّفين والسياسيّين والمتموّلين الذين قاموا بإلقاء أضواء جديدة على المجتمع اللبنانيّ.
إنّ الوثائق التي نشرها الأب سامي خوري بكلّ دقّة وأمانة تشهد لهذا التغيير، وهي تُثبت أنّ تاريخ لبنان الحقيقيّ هو تاريخه الإنسانيّ المتمثِّل بالمظاهر الثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهو في مستوى التاريخ السياسيّ نفسه الذي يبدو تاريخ أشخاص أكثر ممّا هو تاريخ مؤسّسات سياسيّة. لذلك فإنّ نشر الوثائق المدفونة يساعد على إبراز معالم متعدّدة وجديدة من حياة لبنان اليوميّة التي نكاد لا نعرفها سوى بالتواتر من دون الاستناد إلى مراجع موثوق بها. فأرشيف الآباء اليسوعيّين خير شاهد على معاناة الإنسان اللبنانيّ في هذه الحقبة في حياته العامّة والخاصّة، لجهة الأمراض التي كانت تنتشر بين الحين والآخر، وأبرزها مرض الكوليرا الفتّاك في معظم الأحيان، وقد عانت بيروت وصيدا وبعض المدن اللبنانيّة عدّة مرّات المآسي الناجمة عنه. وهنالك هموم الإرشاد وتشجيع المواطنين على الانضباط وممارسة الواجبات الدينيّة بطرق تتناسب مع مفاهيم الدين الحقيقيّة، إضافة إلى ذكر الأصول العائدة إلى زيارات متصرّفي الجبل ورجال الحكومة واستقبالاتهم الدوريّة، والمعاناة في التعاطي بين الحكّام المحلّيّين والأهالي. ولا ننسى الانفتاح الشامل على لبنان من قبل المجتمعات المحيطة به نتيجة إنشاء المراكز التعليميّة والاجتماعيّة في مدن وقرى متعدّدة فيه، قبل اتّخاذ القرار بتملّك العقارات اللازمة لإنشاء جامعة القدّيس يوسف في بيروت، التي قامت بدور بارز ولا تزال تقوم به نشرًا للعلم والثقافة في المجتمع العربيّ والشرق أوسطيّ حتّى اليوم.
فضلاً عن هذه الأمور تُبرز الوثائق المنشورة المنهجيّةَ العلميّة الصارمة في إنشاء مؤسّسات يتعزّز دورها من خلال أصالة تصرّفها. فالأشخاص كانوا دائمًا في خدمة المؤسّسات التي تُعنى بهموم الإنسان. لذلك وبالإضافة إلى الهموم اليوميّة العامّة والخاصّة التي تبرز من خلال الوثائق المنشورة، هنالك أيضًا الدور الإعلاميّ التي كانت الرهبانيّة اليسوعيّة رائدة فيه بلبنان ومحيطه، من خلال إصدار جريدة البشير العام 1871 والتي كوَّنت مرجعًا بارزًا لتاريخ هذه الحقبة من الزمن، إضافة إلى تعزيز المطبعة الكاثوليكيّة وتعميم نشاطها تدريجيًّا على كلّ شرائح المجتمع في حينه.
إنّ غزارة الوثائق المنشورة وأهمِّيَّتها التاريخيّة والسوسيولوجيّة تفرض مراجعة تفصيليّة لها، خاصّة وأنّها تحمل في طيّاتها صفحات لا تُنسى، منها مثلاً تصرّف الآباء اليسوعيّين الدقيق عند تملّكهم العقارات العائدة لجامعة القدّيس يوسف، أو طريقة استقبال المتصرّفين أو الحكّام، أو معالجة إشكاليّات يوميّة بين المواطنين والإكليروس المحلّيّ إلخ... ولكنّ هذه الوثائق تثبت أنّ تاريخ لبنان لم يكتب بعد كما يجب، ما دام أنّ وثائق بهذه الأهمِّيَّة لم تبصر النور بحلّة علميّة دقيقة، بحيث لا يُترك أمرٌ في الخفاء من دون التنوير على مضمونه الحقيقيّ.
إنّ ميزة الأب سامي خوري تعود إلى إثبات هذه المنهجيّة العلميّة الدقيقة المتمثّلة بتكريس القسم الأكبر من حياته لجمع هذه الوثائق ودراستها وفرزها بكلّ أمانة وصدق، وإصدارها مع التعليقات والحواشي اللازمة. وهذه المفاهيم التي يجسّدها من خلال إصداره الأجزاء الثلاثة لتاريخ لبنان استنادًا إلى أرشيف الرهبانيّة اليسوعيّة، تؤلِّف مدرسة لمَن يرغب في ولوج هذه الطريقة العلميّة الدقيقة. ومن فضائل الأب خوري أنّه يقوم أيضًا منذ فترة بإصدار الوثائق والمستندات الموجودة لدى الرهبانيّة اليسوعيّة في روما، العائدة للقرنين السادس عشر والسابع عشر، وقد أصدر حتّى الآن تحت عنوان Monumenta Proximi - Orientis الجزء الأوّل العائد للفترة الممتدّة من 1523 إلى 1583 الذي سبق وتكلّمنا عليه في عدد سابق من مجلّة المشرق (1991، ص 489-492) والجزء الثاني العائدة للفترة الممتدّة من 1583 إلى 1623، وقد صدر العام 1994، وهذا الجزء بالذات لنا عودة مفصّلة إليه في عدد لاحق من المشرق . وهو يبيّن وفقًا لوثائق دقيقة تنشر لأوّل مرّة، حقيقة الأوضاع الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة السائدة في جبل لبنان في القرنين السادس عشر والسابع عشر من دون تضخيم الأمور أو تعتيم المرويّات، ممّا يفتح المجال واسعًا لمراجعة عامّة مفصّلة ومنهجيّة لتاريخ لبنان إبّان هذه الحقبة.
وفي مطلق الأحوال لا شكّ في أنّ السلسلتين اللتين يقوم الأب سامي خوري بإصدارهما بحكمة ودراية، تكوّنان المرجع الأوّل لمَن يرغب يومًا ما في كتابة تاريخ لبنان، حيث إنّ الوثائق المنشورة كفيلة بإبراز ما تمكّن الإنسان اللبنانيّ من القيام به إبّان مراحل محدّدة من القرون الماضية، بحيث لا تنحصر كتابة تاريخ لبنان بتاريخ الأشخاص والحروب، بل يتعدّى هذا الأمر إلى قراءة هادئة لحقيقة تاريخ لبنان الإنسانيّ والسوسيولوجيّ والثقافيّ والاقتصاديّ، وهو تاريخ لبنان الحقيقيّ المنسيّ الذي يعمل الأب سامي خوري على إظهاره خدمة للمستقبل.
هيام ملاّط
تعليقات 0 تعليق