ترسَّخ جذور الهويَّة الوطنيَّة في مجموعة معالم مشتركة عند الشعب كلِّه، كرَّسها الزمن وأضفى عليها طابعًا قدسيًّا. يمكن أن تكون تلك المعالمُ الرواياتِ التأسيسيَّة والرمزيَّة السياسيَّة، وكلَّ ما يكوِّنُ ذاكرةً مشتركة تولِّدُ قيمًا ثابتة وخيرًا عامًّا، وتثير حميَّة الانتماء إلى الوطن. ولكن ليس بالأمر اليسير تطبيقُ هذا المفهوم على المفارقة اللبنانيّة. فإذا كان عند اللبنانيِّين جميعًا شعورٌ معيَّن بالانتماء الوطنيّ، إضافةً إلى مجموعة سماتٍ وقيمٍ مشتركة، فإنَّهم لم يتوصَّلوا بعدُ إلى إرساءِ معالمَ كافية وواضحة تؤسِّس لمفهوم هُويَّة وطنيَّة جامعة خاصَّة؛ أو، بكلامٍ آخر، لا يزالون يعيشون نقصًا خطيرًا في الولاء للدولة، ويفتقدون شعورًا مشتركًا صلبًا بالمواطنيَّة. ولا عجب أن يكون البحثُ عن الهويَّة الوطنيَّة في صميم ما عاشه لبنان من صراعات، منذ تأسيسه حتّى اليوم. وما هدف هذه الدراسة إلاّ محاولة فهم إشكاليَّات تلك الهويَّة الوطنيَّة التي لا يمكن إدراكها إدراكًا موضوعيًّا إلاّ من خلال تجلِّياتها التاريخيَّة، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالخلفيَّة الدينيَّة والثقافيَّة الطائفيَّة. وفي هذا السياق، يتداخل أمران اثنان تداخلاُ فريدًا ومعقَّدًا، يُنتجان، في الوقت عينه، خصوصيَّة لبنان والتباس هُويَّته الوطنيَّة، وهما: نشأةُ الدولة وتطوّرها، وتطوّر الاتِّجاهات الوطنيَّة لدى الطوائف المختلفة ثقافيًّا ودينيًّا بعضها عن بعض. لذا، فإنَّ تكوين الهُويَّة الوطنيَّة المرجوَّة لا يتوقَّف على إمكانيَّة تطوير النظام وحسب، بل على تحوُّلٍ في الفكر الدينيّ السياسيّ.
تعليقات 0 تعليق