الدّكتور جورج صبرا - العقل المؤمن، مدخل إلى اللّاهوت النّظاميّ
لا ندري هل هذا الكتاب مدخل أم طرح كامل للّاهوت النّظاميّ (أو اللّاهوت الأساسيّ بحسب تعبير الكنيسة الكاثوليكيّة، لكنّ الكتاب هو أكثر من اللّاهوت الأساسيّ). إنّه أوّل كتابٍ يتناول غالبيّة القضايا اللّاهوتيّة بلسانٍ عربيّ وفكرٍ شرقيٍّ، فيعرض، باستيفاءٍ وإيجازٍ في الآن نفسه، وخصوصًا بوضوحٍ وبساطة مدهشَين، القضايا وإشكاليّاتها، وموقف العائلات الكنسيّة الثّلاث منها: البروتستانتيّة، والكاثوليكيّة، والأرثوذكسيّة، من دون نقدٍ لأيٍّ كنيسة أو تهجّمٍ عليها، بل بشرح الآليّة الّتي بنت عليها هذه الكنيسة أو تلك موقفها المطروح، والملاحظات أو إشارات الاستفهام الّتي قد تثيرها هذه الآليّة. يبدو أنّ الكاتب رأى، وهو على حقّ، أنّ التّساؤل بشأن الآليّة بدل التّساؤل بشأن الموقف لا يعطي انطباعًا برغبة الانتقاد، ويعزّز طابع الاحترام لجميع الطّوائف، وهو طابع يسود الكتاب من أوّله إلى آخره.
لدينا إذًا موسوعة لاهوتيّة مصغّرة تُطلِعُ القارى على قضايا عدّة، وتطلعه في الآن نفسه على مواقف العائلات الكنسيّة الثّلاث منها. نقول موسوعة لسِعة المواضيع المطروحة، ونتراجع عن قولنا هذا، لأنّ الكاتب لا يخفي موقفه الشّخصيّ، بل يعبّر عنه صراحةً، وهو ما ليس مألوفًا في الموسوعات. وهنا يجدر بنا لفت الانتباه إلى التّواضع الفكريّ لدى الكاتب. فهو يشير مرارًا إلى المصدر إذا ما استوحى منه بوفرة، فيستطيع القارئ أن يميّز بسهولة بين ما قيل وبين ما يقوله جورج صبرا شخصيًّا.
يبدأ الكتاب بتعريف مصطلح كلمة لاهوت تاريخيًّا، وما يعنيه علم اللّاهوت وعلاقته بالإيمان والكنيسة من جهة، وبسائر العلوم من جهةٍ أخرى، وأنواع اللّاهوت وطبيعة ارتباطه بالفلسفة. في الفصل الثّالث تعريف بمصطلحٍ آخر، مهمّ في شرقنا بسبب وروده في الدّيانات الأخرى: الوحي. ما الّذي يقصده المسيحيّون حين يتكلّمون على الوحي الإلهيّ، وما هي سمات هذا الوحي؟ ويُختتَم الفصل بستّة معايير تحدّد مفهوم الوحي في المسيحيّة.
الفصل الرابع: "كلمة الله موحاة، مكتوبة، مُعلَنة"، يتناول مكانة كلمة الله في الإيمان والكنيسة، وهنا يعرض الكاتب موقفَين مختلفين من الثّنائيّة: كلمة الله والسّلطة الكنسيّة الّتي تفسّرها، والموقف الكاثوليكيّ والبروتستانتيّ.
فصل طويل (من الصّفحة 115-165) يتناول عقيدة سرّ الثّالوث، ظهور العقيدة وأسسها الكتابيّة، والإشكاليّات الّتي طرحتها عبر التّاريخ. لكنّه لا يعالج مسألة انبثاق الرّوح من الآب أو من الآب والابن، بل يُرجئها إلى الفصل الحادي عشر الّذي يتكلّم فيه على الرّوح القدس. وبعد هذه الاستفاضة الضّروريّة بسبب الإشكاليّات الّتي يطرحها الموضوع المطروق، يعرّج الكاتب، في فصل موجز، على مسألة مطروحة اليوم، خصوصًا في الغرب وهي هويّة الله الجنسيّة، هل هو أب أو أمّ كما يقول بعض اللّاهوتيّين، وعلى رأسهم بعض التيّارات النّسويّة؟
مسألة الشرّ موزّعة على فصلَين. الفصل السابع: "الله ومسألة الشّرّ"، والتّاسع: "الإنسان مخلوق-فريد-ساقط-محبوب". في الأوّل يتناول الشّرّ الطّبيعيّ، وفي الثّاني الشّرّ الأدبيّ، وبين الفصلين واحد بملحَقَين يتكلّم على الخلق، وانطلاقًا منه يتناول الملحق الأوّل علاقة المسيحيّة بالعلم، والعلم يقود بشكل طبيعيّ إلى التّساؤل عن المعجزات، وهو موضوع الملحق الثّاني.
الفصول التّالية تتبع التّسلسل التّاريخيّ للخلاص: الأنتروبولوجيا المسيحيّة نجدها بأبعادها في الفصل التّاسع، وفيها تعالَج مسألة مكانة الإنسان في الخليقة، خطيئته، وموقف الله منه. الفصل التّالي خريستولوجيا متمحورة على الخلاص، يليه فصلان واحد عن الرّوح القدس وآخر عن الكنيسة بألقابها: واحدة، جامعة، مقدّسة، رسوليّة.
الفصل الثّالث عشر يتناول الأسرار والكرازة. إنّه فصل مهمّ جدًّا، بحيث يعالج مسألة يتساءل عنها جميع المسيحيّين في الشّرق: ما هو موقف الكنائس الإصلاحيّة من أسرار الكنيسة السّبعة المُعتمَدة في الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة؟ الموضوع مطروح بموضوعيّة، وملاحظات كلّ فريق على الفريق الآخر معروضة بوضوحٍ ومن دون تحيّز، وهو ما يندُر في منشوراتنا العربيّة.
الفصل الأخير، الأخيريّات. الدّينونة الأخيرة والسّماء والجحيم، تختتم موسوعة مصغّرة في اللّاهوت، ربّما، وهذه ملاحظتنا، ينقصها فصل منفرد عن التّجسّد بمعزلٍ عن ارتباطه بالفداء.
نشكر الدّكتور جورج صبرا لأنّه أغنى مكتبتنا العربيّة بكتابٍ مرجعيٍّ قيّمٍ كهذا، يحسن أن يقتنيه كلّ مسيحيّ، ومن بابٍ أَولى كلّ مَن درس أو يدرس اللّاهوت.
العقل المؤمن، مدخل إلى اللّاهوت النّظاميّ
ط.1، 472 ص. بيروت: دار المشرق، 2024
(978-2-7214-5665-6 ISBN)
الأب سامي حلّاق اليسوعيّ: راهب يسوعيّ، وأستاذ في جامعة القدّيس يوسف - بيروت. له مؤلّفات وترجمات عدّة منشورة، بالإضافة إلى مقالاتٍ بحثيّة في مجلّة المشرق.
تعليقات 0 تعليق